المقال الاسبوعي
لغة اهل الجنة
م.م هيجاء ضياء الدين حسين
اللغة العربية، تلك اللؤلؤة التي تزينت الحضارات بتاجها ، تتميز بجمال آسر وسحر خاص ، فهي لغة القرآن الكريم، لغة الشعر والفلسفة ، ولغة العلوم والمعرفة ، كيف لا وهي توأم الفرد العربي الذي لا تنفك عنه، يفكر فيها ، ولا ينفك ان يكون تفكيره دائرا حول رحى الكلمات التي يتحاور بها مع افراد جنسه وقبيلته وشعبه وبلده، بجمال وتناسق وتناغم قل نظيره لا يقتصر على شكل الحروف وكلماتها، بل تجلى ابعد من ذلك دلالاتها العميقة وقدرتها الفريدة للتعبير عن أرقى المشاعر والأفكار ، فنستحضر المعاني الخارجية والمعنوية والذي يرى وما لا يرى ، وما له شكل ومادة وما ليس له ذلك كالحب ، كل هذا يجول في خاطر الانسان العربي منذ استيقاظه حتى منامه ، بل حتى في رؤياه التي يراها في المنام ، تأتي وفق موازين لغته التي يتحدث بها ، فهي الرفيق والدليل الذي يلاصق جسده طوال حياته متأصلا بين ثنايا صفحات ماضيه وحاضره ومستقبله.
اقول : علاقتنا باللغة لا تنحصر بالتفكير بل تتعدى ذلك بأشواط فهي تحدث كالمعجزة في نقل ما يجول في خواطرنا ما يريده وما لا نريد ، فهي من غير مبالغة كالتنفس لولاه لا نعيش ، لكنه ضيف خفيف الظل لا نفتقده الى حد الاختناق ، أو الغرق ، فيتم نقل الاف كيلوبايتات من دماغ انسان الى انسان أخر بواسطة التحدث والكلام ، فاللغة كالأسلاك الغير مرئية يتم التواصل من خلالها بين فرد وأخر، ومن الاهمية بمكان ان نذكر ما للغة العربية من جمال الإيجاز والبلاغة ؛ إذ تتميز بقدرتها على التعبير عن المعنى بأقل عدد من الكلمات بشكل بديع ومؤثر، وتتميز كذلك بالثراء اللغوي ، حيث تمتلك مخزونا هائلا من المفردات والمعاني، مما يجعلها قادرة على التعبير عن كل شيء. بإيقاع موسيقي خاص، مما يجعل من سماعها متعة بحد ذاتها.
من خلال قدرتها عن التعبير عن أعمق المشاعر الإنسانية ، من الحب والحزن إلى الغضب والفرح، ومن الطبيعي أن المولى سبحانه وتعالى قد خلق الخلق وفق التعدد والاطياف ومن بديع خلقه انه جعلنا شعوبا متعددة حيث قال : “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (١٣) الحجرات.
وهنا نقف امام تساؤل مهم وخطير ، ماذا سيحدث لو اننا فقدنا اللغة ؟ فهل يمكننا التعارف؟ وهل سيتمكن الانسان من العيش بدونها ؟ وكنت قد سمعت عن تجربة قام بها أحد السلاطين حيث عزل مجموعة من الاطفال غير البالغين، ولم يسمح لمن يقوم بمداراتهم بالتحدث أمامهم ، ولا عجب أن الاطفال محل التجربة قد ماتوا كلهم بسبب عدم سماعهم أي كلمة من اللغة ، فهذه التجربة إن صحت فهي تعكس لنا أهمية اللغة لا على مستوى التفكير والتحدث بل الى حد الوقاية من الموت ومن هذا نعرف بدائع صنع الخالق جل وعلا ، أنه جعل الشعوب تتكلم بلغات مختلفة وفق قوانين لغوية عجيبة ، كأنه يبرمج كل قوم على لغة معينة ولا يتوقف الإبداع عند هذا الحد بل تعدى ذلك بان جعل داخل كل لغة عدة لهجات يتميز بها أهل بلد عن أخر وأهل محافظة عن أخرى يتحاورون بها وتتجذر فيهم فيعرفون حقيقتها ومجازها واستعاراتها وكناياتها مما يصعب على غيرهم معرفة معاني معانيها ، حتى قيل : لا يمكن ترجمة لغة إلى أخرى مئة بالمئة ومن بين هذا الابداع الملحمي يختار المولى عز وجل اللغة العربية فتتميز عن بقية اللغات فتعقد لها راية الرئاسة على بقية اللغات ، وكيف لا وهي لغة ارتضى المولى سبحانه وتعالى ان يشرفها وينزل بها قرانه الكريم ، ليكون أعجوبة لغوية ومعجزة خالدة الى قيام الساعة .
ولا بد لنا في هذا الموضع ان ننوه الى امتلاك لغتنا العربية تاريخا عريقا حافلا بالإنجازات الحضارية والفكرية، والشعرية ، حيث يعتبر الادب والشعر العربي من أبرز دعائمها ، اذ يتميز الشعر بجمال ألفاظه وبلاغته ، وما بين هذا وذاك فهي تتمتع بجمال الخط العربي الذي يعتبر فناً بحد ذاته، ، ويتميز بجمال أشكاله وتناسق خطوطه ،وكما جاء في الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: إن كلام أهل الجنة العربية، وإن كلام أهل السماوات بالعربية، …… ) وكذلك الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام :، لِسَانُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيُّ … ) وغيرها من الاثار، فحري بنا أن نشكر الله سبحانه على هذا الاختيار بان شرفنا وجعلنا من المتحاورين باللغة العربية ، التالين لكتابه الكريم ، والطالبين لقوانين قواعد هذه اللغة الجميلة ، لذا كان لزاما علينا ان نحافظ عليها، كونها جزء لا يتجزأ من هويتنا الثقافية والحضارية ، لهذا يجب علينا اليوم أن نعمل جاهدين على نشر اللغة العربية وتعليمها للأجيال القادمة، وأن نحميها من التشوهات والاختلاط باللغات الأخرى.
وفي الختام لا يسعنا الا ان نقول : ان اللغة العربية هي كنز لا يقدر بثمن، وهي موروث حضاري علينا أن نفتخر به ونحافظ عليه ، فهي مصدر إلهام وإبداع، وهي دليل عظمة هذه الأمة.