في مطلع القرن العشرين انتقلت قيادة الفكر والنظريات التربوية من ايدي المربين الاوربيين (الانكليز والفرنسيين والألمان) الى ايدي المربين الامريكيين، ويمكن القول ان الغالبية العظمى من الفلسفات و الحركات التربوية التي ظهرت وتعززت في هذا القرن قد نشأت على أرض اميركية، ومعظم قادتها من الامريكان، و أصبح دور البلاد الاوروبية دور المقلد و المطبق للنظريات التربوية الاميركية بعد تكيفها للظروف الخاصة في بلدانهم.
قد اتسع نطاق تأثير الفلسفات و النظريات التربوية الاميركية بعد ان توسعت اميركا في علاقاتها الثقافية و السياسية و الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، و امتد هذا التأثير الى مختلف الدول الافريقية و الاسيوية، و خاصة الدول التي تربطها بأميركا علاقات وثيقة مثل: اليابان والفلبين و فيتنام الجنوبية وكوريا الجنوبية و الصين الوطنية.
لذا بدأت منذ اوائل هذا القرن تلاشي الفلسفات التربوية التي ظهرت في ألمانيا و الاقطار الاوروبية المجاورة لها في القرن التاسع عشر مثل الفلسفات ( الهيجلية والبستالونزية و الهربارتية و الفروبلية)، لتحل محلها فلسفات تربوية اميركية جيدة أكثر دقة و تنظيما، نتيجة للعديد من العوامل والتطورات الثقافية.
بالرغم من أن الفلسفات التربوية الحديثة قد استمدت كثيرا من مبادئها من الفلسفات التربوية الاوروبية، الا انها تأثرت بعوامل الحياة الاميركية، وغلبت على معظمها النزعة العلمية الواقعية التقدمية الديمقراطية.
لقد اولت التربية التقليدية عناية خاصة بالتعليم و إكتساب المعرفة قبل الاهتمام بالتربية، و لكن التربية الحديثة تؤكد على اولوية التربية على التعليم، ورغم صعوبة وضع الحواجز الفاصلة بين التربية والتعليم، ولهذا فأن التربية التقليدية لم تكن بعيدة تماما عن الاهتمام بالتربية الخلقية و الفكرية والجسدية للفرد، لذا فأن الهدف الاساسي للمدرسة التقليدية هو تزويد الطالب بالمعلومات و المعارف، دون ان تهتم بتربية شخصيته في الجوانب المختلفة، نظرا لتقدم العلم تقدما كبيرا في القرن التاسع عشر.
لا نستطيع القول ان التربية التقليدية لم تستند الى علم النفس، لكنها استندت الى علم النفس القديم الذي يهتم بالنزعة العقلية الارادية بالدرجة الاولى، و هكذا اضطرت التربية التقليدية ان تكون تربية ذات نزعة عقلية و إرادية تهمل الجوانب العاطفية التي تحفز البشر، و كذلك تهمل أثر البيئة التي تحيط بالطفل، و ترى هذه التربية ان كل ما يجب ان تقوم به هو ان توجه الطالب الى سُبل الخير و توضح له هذا الطريق لتنهض إرادته، وان يتبع طريق الخير بعد ان تعرف عليه، و قد تأثرت هذه التربية بالفلسفة التي تعتمد على الجوانب الخلقية التي تعدها المثل الاعلى، وان العمل الاخلاقي الذي يقوم به الفرد دون اي انجذاب عاطفي إليه، و إنما يسعى إليه لأنه واجب و عمل إرادي.
أما علم النفس الحديث فلا يذهب في تحليله للنفس البشرية هذا المذهب البسيط للأمور ولا يعترف للإنسان بهذه القدرة العجيبة على انجاز الامور عن طريق ارادته، بل يرى ان لكل عمل إرادي ( باعث ودافع و سبب) ، واذا ما تفهمنا هذا السبب أصبح دافعا قويا قادرا على التغلب على الدوافع المعاكسة، لذا فأن علم النفس الحديث قد أقر الدور الاساسي الذي يلعبه الاهتمام و الميل في حياة الانسان، و انعكس هذا الموقف على التربية الحديثة، فأصبحت اهتمامات الطفل وميوله محور التربية ورائدها، واصبح همها تعزيز هذا الاهتمام في نفوس الطلبة وجعله المدخل الاساسي لتعليمهم وتكوينهم.
وقد اهمل علم النفس القديم الذي كان يجهل الدوافع النفسية للراشدين، مما جعله يظن أن ما ينطبق على الراشدين ينطبق على الاطفال تماما. ولذا فقد نظر علم النفس هذا الى الاطفال كأفراد صغار أو راشدين صغار، و يسلك هؤلاء الاطفال سلوك الراشدين نفسه، وانعكس ذلك على التربية التقليدية التي عاملتهم بدورها كراشدين، وجعلتهم يعيشون حياة المحكومين بالأعمال الشاقة.
بعد ذلك بدأ علماء النفس و الفلاسفة بدراسة نفسية الاطفال عن طريق دراستهم لنفسية ابنائهم اولا، ثم انصرفوا لدراسة الاطفال دراسة منهجية منظمة، ولاسيما عندما اضطروا الى الاشتراك مع الاطباء في تقديم وجهات نظرهم حول الاطفال المتأخرين و الشاذين، والتعاون مع المؤسسات التربوية لرعايتهم وتوجيههم.
اهتمت البحوث التربوية والنفسية ب( علم نفس الطفل) تدريجيا عن طريق الملاحظة والتجربة، ونستطيع القول بأنه ظهر( علم نفس الطفل)، اي الدراسة العلمية النظرية للطفل على يد امثال المربي السويسري (بياجيه (piajet ، وعالم النفس الفرنسي ( فالون (falon والاميركي ( Gezzil جيزل) وغيرهم، ووجدت التربية الحديثة في هذا العلم مصدرا غنيا تبني عليه مبادئها و قواعدها، و كان (كريست مان kristman أول من أطلق ( علم نفس الطفل) في هذا المجال الجديد عام (1893).
هكذا وقدم هذا العلم خدمات جليلة للتربية، حينما أهتم بدراسة مراحل الطفولة المختلفة وخصائصها النفسية المهمة، و بذلك وضع الاساس المتين لتربية تتلائم مع النحو النفسي للطفل، و تدور اهتمامه وميوله في كل مرحلة من هذه المراحل.
قد جرت العادة من قبل المربين وعلماء النفس ان يبدأوا في عرضهم و شرحهم لنظرياتهم التربوية و النفسية بتوضيح الاسس النظرية لها، ثم يتبعوا ذلك توضيح الجانب التطبيقي لها في المجال التربوي، و تحت الاساس النظري يحاول المربون و علماء النفس ان يوضحوا المبادئ التي يؤمنون بها بالنسبة لطبيعة الكون وطبيعة الانسان، و بالنسبة لطبيعة المعرفة الانسانية، وطرق تكوينها واكتسابها، و بالنسبة لطبيعة القيم الاخلاقية و مصادرها و طرق تكوينها واكتسابها.
حدث التقدم الكبير في القرن العشرين في مجال علم النفس، والعلوم الطبيعية ، والعلوم البيولوجية، و العلوم الاجتماعية، مما ساعد المربين، و لا سيما التقدم في علم النفس و علم الاحياء، على تكوين مفاهيم صحيحة ، أو قريبة من الصحة عن طبيعة الطفل، و عن العوامل الوراثية و البيئية التي تؤثر في نموه و في تكوين شخصيته، و عن الصلة بين القوى العضوية و القوى النفسية، و عن طبيعة العقل البشري، و عن كثير من العمليات العقلية على اسس تجريبية، بعد إن كان إدراك مثل هذه العمليات يقوم على اسس فلسفية ميتافيزيقية.
كما ساعد التقدم في علم النفس على فهم كثير من الدوافع الشعورية واللاشعورية للسلوك البشري، و تأثير هذه المفاهيم الجديدة التي استفاد منها المربون من تقدم تلك العلوم، من خلال افكارهم التي تتصل بمعنى التربية و أهدافها ومناهجها و طرقها.
العلاقة بين التربية وعلم النفس
العلاقة بين التربية وعلم النفس