تعد اللغة وسيلة للاتصال والتواصل , وهي بهذا تعد رافداً من روافد نقل ثقافات الشعوب والتعبير عن حضارات الامم , فالحزام الذي تنتقل عبره الحضارة من جيل الى جيل يكمن في اللغة , وتعد اللغة وعاءاً للفكر ومرآة الحضارة الانسانية التي تنعكس عليها مفاهيم التخاطب بين البشر ووسيلة للتواصل السهل , وعليه اهتم بها الانسان وطور آلياتها لتصبح قادرة على احتواء كل جديد , فلهذا تعد اللغة العربية وسيلة لنشر الثقافة والحضارة والفنون والآداب وغيرها , فلا بد ان ننظر دائماً الى اللغة كوسيلة او حامل (support) فحسب , وانما يجب ان ننظر الى اللغة كغاية في حد ذاتها .
ان اللغة العربية كغيرها من اللغات تأثرت بمختلف المراحل التي واكبت المجتمع منذ فجر الاسلام , فامتداد استخدام اللغة العربية (اي الكلام) مع الفتوحات الاسلامية يواكبه ادخال تراكيب واصوات لغوية ليست من اصل اللغة العربية , فظهر النحو والصرف حفاظاً على اللغة من هذا (الاعوجاج) , وكان المرجع في ذلك القران الكريم والسنة النبوية الشريفة وشعر العرب الذي لم يتأثر بالتعابير والاصوات الوافدة على اللغة العربية .
تعاني اللغة العربية في المجتمع المعاصر من اختلالات كثيرة على مستويات عديدة, منها على مستوى النطق اي (الكلام) او على مستوى جهاز اللغة في حد ذاته , وهذا التمييز اي بين (الكلام واللغة) يجعلنا ندرس اللغة كلغة (Language) احياناً , وكلام (speech) احياناً اخرى .
فسحت الفضائيات مجالاً واسعاً ورحباً للهجات المحلية على حساب اللغة العربية الفصحى , فالذي يتتبع ما تبثه هذه الفضائيات على كثرتها وتنوعها من برامج باللهجات المحلية يظهر لنا وكأن هذه الفضائيات تتبارى فيما بينها وكأنها تتحدى نصاعة العربية في بديعها و ابياتها , وضاقت مساحة اللغة العربية السليمة , واصبح استعمالها يكاد يكون قاصراً على اذاعة الاخبار , والخطب الرسمية , والاحتفالات , والاحاديث , والتعليقات السياسية والثقافية , وطائفة من الروايات والمسلسلات التاريخية والدينية وما يماثلها , وزاد امر اللهجات تعقيداً ما قامت به بعض القنوات الفضائية المسماة بـ( قنوات الاثارة ) التي اخذت تذيع باللهجة العامية الممزوجة ( بعنف اللسان ) في ارجاء الوطن العربي من منطلق يتمثل في احلال اللهجة العامية محل اللغة العربية الفصحى .
ويؤدي الاستخفاف باللغة العربية الفصحى في بعض القنوات والتي تسمى بـ( الفنية) الى الترويج الى السوقية وشيوع الكلمات الهابطة والمصطلحات غير اللائقة , والاكثر من هذا تشجيع الجمهور على استحسان الرداءة والنظر بعين الرضا الى نفوسهم , وينبغي الا يغيب عن بالنا ان الظاهرة اللهجية لا تقف عند النطق كما كان الحال قديماً, بل تتعداه الى الكتابة المرئية وهي واضحة على شاشات التلفاز والكتابة اللهجية تنطوي على الخطأ الاملائي والخطأ النحوي ورؤيتها على هذه الصورة المتكررة يجعلها تترسخ في اذهان الاجيال قبل معرفتهم السلامة اللغوية وهذا يجعل من العسير محوها من اذهانهم.
وادت اللهجات العامية الى شيوع ظاهرة اخرى في بعض القنوات التلفازية في المغرب العربي هي ظاهرة (عنف اللسان) الذي يقود الى (عنف الاعلام) وهذه الظاهرة السلبية معروفة في القنوات التلفازية الفرنسية بصورة خاصة لذا ان (عنف اللسان) خصوصا في هذه القنوات العربية الهابطة يعود الى انكسار البنية القيمية الدينية لهؤلاء الاعلاميين فانكسار القيمة يقود الى عنف اللسان والاعلام ايضا.
تعاني اللغة العربية الفصحى من معضلة في بعض وسائل الاعلام تتمثل في ادخال تراكيب لغوية جديدة من لغات اخرى فأثر هذا على جهاز اللغة العربية الاصيل ويلاحظ نسبة معتبرة من العبارات او المصطلحات الاجنبية التي اصبحت دخيلة على اللغة العربية وغيرت من بنيتها الداخلية نتيجة الاحتكار والتداخل بين الالفاظ فعلى سبيل المثال يلاحظ ان اللغة العربية في الجزائر اصبحت تعتمد كثيرا على الاستعارة اللغوية خاصة على مستوى الكلام للعديد من الالسن كالأمازيغية(لغة السكان الاصليين لشمال افريقيا) والفرنسية والاسبانية والتركية والايطالية.
ونلاحظ في مصر كثرة الاستعارات من اللغة الانكليزية الى درجة تتساوى فيها الالفاظ العربية في بعض الاحيان بالألفاظ الانكليزية المعربة ومن كثرة التداول اصبحت وكأنها لفظة عربية, ويزداد امر اللهجات العامية فداحة ما قامت به بعض القنوات الفضائية والتي تسمى (قنوات الاثارة) والتي اخذت تذيع باللهجة العامية الممزوجة بعنف اللسان في ارجاء الوطن العربي من منطلق احلال اللهجة العامية محل العربية الفصحى.
وتعاني اللغة العربية في وقتنا الراهن قصورا واضحا لدى اهاليها من العرب ويعود ذلك الى مجموعة من الاسباب والعوامل التي ساعدت على هذا القصور:
*عدم اعطاء بعض العرب مكان الصدارة للغة العربية في بلدانهم وخاصة مجتمعات المغرب العربي
*سيطرة اللغات الاجنبية على الاقسام العلمية في معظم الجامعات العربية في المشرق والمغرب على حد سواء
*ابعاد اللغة العربية عن مجال التفاعل مع العلوم الحديثة في التدريس والبحث والتأليف والترجمة
*ابعاد اللغة العربية في مسايرة العصر التكنولوجي الراهن باستيعاب المفاهيم والمصطلحات العلمية الحديثة
*ظهور الدوريات والمصادر العلمية المختلفة بهذه اللغة العربية التي باتت احيانا اجنبية في عقر دارها
*استباق اللغات الاجنبية للتدريس في مختلف الفروع العلمية في معظم الجامعات العربية
اصبحت اللغة العربية عند ملاحظة هذه الظواهر غريبة في ديارها وينطبق عليها لغة الشاعر فيها مرثيا:
صنت نفسي فأتهمت حياتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني
لم اجزع لقول عداتي