المقال الاسبوعي
المغرب والاندلس تاريخ مشترك وتراث حضاري
م.د. سناء ضاري زيدان
لا غرب ان يكون للمغرب والأندلس تاريخ طويل وعميق يملئه التفاعل والتناغم الثقافي والسياسي، الذي نتج عنه سفر حضاري غني بجميع جوانبه الحضارية والانسانية .
اقول : كان للفتح الإسلامي للأندلس في بداية القرن الثامن الميلادي بقيادة قائده الفذ طارق بن زياد ، الذي توج هذه الفتوحات المجيدة بتأسيس إمارة إسلامية قوية الحدود والثغور في الأندلس ، مما اسهم بشكل فاعل في نشوء علاقات ثقافية وتجارية وسياسية متينة وعميقة بين المغرب والأندلس ، مما دفع المؤرخون الى وصفه بالعصر الذهبي للأندلس خلال الفترة الأموية التي تميزت بكونها مركزًا للعلم والمعرفة والثقافة والفنون آنذاك ، اذ ازدهرت الحياة المدنية والعمرانية وبلغت ما بلغته من مظاهر الرقي الحضاري بجميع جوانبه ونواحيه كما هو الحال في قرطبة وغرناطة وغيرها من مدن الاندلس ، اذ شهدت هذه القلاع الحضارية ازدهارا ورقيا قل نظيره وبخاصة في جانب العلوم والفلسفة والطب والفنون وغيرها ، ولا يخفى علينا التأثير الكبير والبارز للأندلس على العالم الإسلامي عامة والمغربي خاصة من خلال ما قدمه علمائها وفلاسفتها وشعرائها من علومهم ومعارفهم الجمة التي ساهمت في اثراء التراث الاسلامي بشتى نواحيه وجوانبه ، ولا عجب ان تشهد تلك البلاد تطورًا كبيرًا تحت حكم امراء السلالات الإسلامية ، كدولة المرابطين ، والموحدين وغيرها ، فقد اسس حكامها إمبراطوريات قوية عززت العلاقات الثقافية والسياسية في الأندلس وغيرها ، مما أدى إلى ظهور تبادل مستمر للأفكار والتقاليد بين الجانبين المغرب والاندلس ، ومما لاشك فيه ان التبادل للأفكار والتقليد ، كان اكثر وضوحا بسبب الهجرة التي حدثت بعد سقوط الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي ، فقد هاجر العديد من المسلمين واليهود إلى المغرب هربًا من الاضطهاد ، ولا يختلف اثنان ان ما جلبه المهاجرون معهم من تراثهم الثقافي والعلمي كثير لا يمكن حصره وعده ، الذي أثر بشكل كبير وبالغ على المجتمع المغربي بسبب التداخل الحضاري بشتى جوانبه بعد الهجرة كما ذكرنا ، ومن الواضح للعيان رؤية هذا التأثير الحضاري الأندلسي في العمارة والفنون والموسيقى في المغرب في يومنا الحاضر، اذ تعتبر الموسيقى الأندلسية مثالًا بارزًا على التراث المشترك بين المغرب والأندلس ، هذا النوع الموسيقي الذي نتحدث عنه نشأ من رحم الأندلس وترعرع وتطور واستمر في الانتشار في المغرب ، وهذا ملموس لدينا اليوم من خلال استمرار الاحتفاء به في المناسبات الثقافية والمهرجانات . وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على العمق الكبير بين الحضارتين المغربية والاندلسية ، ويظهر هذا من المظاهر التي جسدت الروابط القوية بين العمارة والفنون المختلفة التي تركت بمجملها بصمة واضحة في المغرب، وهو ظاهر على المباني التقليدية في المدن المغربية ، كالزخارف الهندسية والأقواس المزخرفة التي تسطر أبرز سمات الطراز الأندلسي ، وكذلك تأثر الفنون المغربية بالأساليب الأندلسية التي تمخض عنها انماط فنية جديدة وفريدة تجمع بين التأثيرات الإسلامية المغربية والارث الاندلسي الذي تجلا امامنا اليوم في المغرب العربي ، وهذا ما ينطق به تكريم هذا التاريخ المشترك من خلال الفنون والعمارة والتقاليد اليومية التي تعكس هذا التراث المشترك وقوة التبادل الثقافي وأهمية التفاعل الحضاري في بناء مجتمعات غنية ومتنوعة في تاريخنا الحاضر .
وفي الختام لا يسعنا الا ان نقول : إن فهم هذا التراث يساعدنا على تقدير التنوع الثقافي والتاريخي الذي نعيشه اليوم ، من خلال صورة ارتسم فيها التاريخ المشترك بين المغرب والأندلس الذي يعد انموذجًا رائعًا للتعايش الثقافي والثراء الحضاري الذي يمكن أن يولد عندما تتفاعل الثقافات بشكل إيجابي ومثمر.