بدأت التربية منذ اللحظة الاولى التي خلق فيها الله سبحانه وتعالى الانسان, وذلك بالتأمل بقوله تعالى في سورة(ص) (اذ قال ربك للملائكة اني خالق بشر من طين (71) فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين(72)) هنا نجد انفسنا امام اول عملية تربية من قبل المربي الاعظم الاول وهو الله جلت قدرته ,يضع الشروط والمواصفات التي في اطارها ,وفي ضوئها انطلق الانسان يسلك او يفكر وينفعل ويكره…الى غير هذا وذلك من تصرفات, كان موقف الانسان الاول ازاء عالم الحس هو العمل, يصيد ما يقدر عليه من حيوانات يقدح الاحجار حتى تخرج منها النار, وهو من الاكتشافات التي وصل الانسان اليها في عهده الاول ,يقطف الثمار من علي الاشجار الى ان توصل الى فكرة الزراعة فأخذ يزرع الارض ويأكل مما تنبته ,ومن خلال الخبرة المباشرة كان الانسان يتعلم الكثير من خلال التقليد والمحاكاة, وكان الصغار يتعلمون خبرات الكبار في حياة العمل. اما بالنسبة للقوى الخفية فكان سلوكه ازاءها هو سلوك الخائف الذي يسعى الى استعراضها , مما تطور واصبح (عبادات) في صورتها الاولية , ويمكن تقسيم تربية الانسان في عهده الاول الى قسمين, تربية فيما يتعلق بما يرى, وتربية فيما يتعلق بما لا يرى اي تربية عملية وتربية نظرية, وان الانسان في العهد الاول كان يوزع نشاطه على العمل والعبادة, وبواسطتهما يتوصل الى ارضاء فطرته الحسية التي كانت تقتصر في البداية على امرين هما (الجوع والحب) ونعني بالجوع هنا كل الرغبات الحسية التي لها علاقة بالشخص نفسه كالعطش والجوع والحاجة الى الملبس والمأوى والراحة… الخ ونقصد بالحب كل ميوله التي لها ارتباط الاخرين كحب الظهور وملاذ الاسرة…الخ, فالأولى هي منبع كل الاحساسات النفسية , والثانية هي اساس كل الميول الاجتماعية, فبالعمل اشبع جوعه هو واسرته, وبالعبادة وقاهم جميعا من اخطار تلك القوى التي تخيلها فيما وراء الظواهر الطبيعية والتي يعجز بقوته عن دفعها, فقواعد العمل لديهم كانت اساس الاخلاق ومبدأ السياسة, واعتقاداتهم في العبادة كانت مبدأ الدين اولا وبعد ذلك صارت اساسا للعلوم والفنون والفلسفة. لذا يستعمل الانسان في العمل الاشياء وفي العبادة روح او اسماء تلك الاشياء, فالأشياء بالطبع قاصرة على نفسها, ولكن روح الاشياء كانت عامة, فالحجر الذي كان يراه بعينه او الشجرة التي كان ينظرها امامه لا تتعدى حدود نفسها ولكن الروح او (الاسم) الذي بتلك الشجرة له معنى وتأثير عظيم, وجعل منه الانتقال من شيء الى اخر اي من جسم الى حجر صلد, وبعد هذا تمكنت الروح او ذلك الاسم من الاستقلال بنفسه والانتقال من مكان الى اخر, ومن هنا اتت فكرة تقديم القربان الى المعبودات , ولما فكر انسان العهد الاول في حلول تلك الروح في اشياء طبيعية كبرى كالسماء والبحر والارض والشمس والقمر قدرها وعظمها واتخذها آلهة, فالتربية في عهدها الاول اذن تشمل تعلم الوسائل المؤدية الى الحصول على حاجات الحياة للفرد واسرته هو استعطاف القوى الخفية التي يتخيل وجودها في الطبيعة عندما كان الانسان الاول يبذل جهوده للحصول على تعلم استعمال الآلات لكي يرتقي عن الحيوان الاعجم, وكذلك يتعلم صناعة الآلات والادوات من الخشب والحجر والطين والعظام والالياف والجلود, لكنه لم يكن يعرف شيئا عن استعمال النار والمعادن, اما حبه فكان قاصرا على افراد اسرته او عشيرته او الحيوان الذي يفيده في حياته كالمواشي والكلاب وغيرها, وكذلك ارواح اجداده اذ كل هذه كانت تعد افرادا في القبيلة تربط بعضها ببعض رابطة الدم وهي الرابطة الوحيدة التي كان الانسان الاول يعرفها. ان الانسان الاول الذي كان يعيش بحرية لم يكن في الحقيقة الا رقيقا مقيدا, فهو اسير حاجات المعيشة, وكذلك اسير خوفه من القوى الخفية, وهو مقيد ايضا في استعماله الاشياء الحسية لأنه دائما كان يخشى ان تكون احدى الارواح قد احتلت ذلك الشيء ولذا يضيع مقدارا عظيما من وقته في تلاوة التعاويذ والقيام بمراسم عبادته , ومع ذلك فلم يستطيع ا يتخلص من خوفه, واذا اردنا ان نبحث عن عملية التربية نفسها فسوف نجد هنا- في العهد الاول للإنسان- انها كانت هي عملية الاعداد الضروري اللازم للحصول على الحياة , والغرض منها هو احداث توافق وانسجام بين الفرد وبيئته المادية والروحية, وذلك بوسائل ثابتة وطرائق معينة في القيام بالأعمال , وهنا نجد ان دراسة التربية متضمنة في العملية التربوية نفسها, واذا اردنا مزيدا من الايضاح فلنتأمل عملية فلاحة الارض كما كان يقوم بها المزارع القديم انه يهيء الارض مثلا ويقوم بعمليات متعددة تحددها مساحة المعرفة والخبرة في هذه الفترة ,مثل الحرث والبذور والري ,وانا نجد ان الزراعة هنا لم يواجهها الانسان بالدراسة لمعرفة خطواتها وقواعدها ومبادئها, ولكن عرفها بالمحاكاة والتقليد وبالممارسة يعرف ا هذا خطا فيتجنبه وهذا صواب فيسير عليه , وهذا اكثر صوابا فيعدل من سلوكه, وهكذا هو معنى قولنا ا الدراسة متضمنة في العمل نفسه , ولم تفصل الزراعة كموضوع او كمجال يخضع للتحميص والبحث والدراسة الا فيما بعد, شيء مثل هذا او قريب منه نقوله بالنسبة للتربية, وهو ان دراستها كانت قائمة في اجراءاتها وعملياتها.